كيف تسيطرين علي غضبك؟
ها هي تتهاوى وتتكسّر وللأسف الشّديد صوت ارتطامها بالأرض يسحق الأُذنين ويُخيف القلب. ولكن
كيف، كيف سأعيد ترميمها وجمعها بعضها ببعض؟ كيف ستعود أحلى لوحة باهظة الثمن رسمتها يد "ليوناردو دافنشي" على الزُّجاج الشّفاف؟ كيف؟ ... كيف؟ جلست أُلَملِم ما استطعت من قطع الزُّجاج المتناثر ودموعي تغسل الدِّماء عن أصابعي، لم أجمع إلا القطع الكبيرة منها وأنا ألفظ كلمة واحدة طيلة المساء يا ليتني لم ... يا ليتني لم ...
ما حصل معي أفقدني رغبتي في الحياة فهذه اللوحة هي نسخة أصليّة قد ورثتها عن والدي قبل وفاته، إنّها إرث العائلة الوحيد. كان لها عندي معاني نفسيّة وقلبية أكثر من قيمتها المادية التي تساوي ثروة طائلة، وكل ما حدث كان بسبب نوبة من النّوبات التي اعتادت أن تجتاحني والتي لم أستطع كبتها أو ضبطها. نوبة من نوبات غضبي التي لطالما أنهيتها بالبكاء أو الصراخ، لكن في هذه المرة انتهت بكارثة حقيقية حفرت في نفسي جراحاً أعمق من تلك التي خلّفها زجاج الصورة المكسورة على يدي. كان هذا درسي الأول، فيه تعلّمت وعرفت ما الذي سأحصل عليه لو سلّمتُ جسدي لدفّة مشاعري المتقلِّبة والثّائرة. توالت الأيام والسنون وكل ما تركته هذه الحادثة من جروح كانت قد التأمت، لكنَّها تركت ندوباً لن تزول. وذات يوم مررت بغرفة مديري في العمل، وكم صعقني عندما رأيت يده تمتدّ على موظفة عندنا في الشركة. كان يصفعها على وجهها الجميل، ولم تمرّ لحظات حتى خرجت منهارة من البكاء والصراخ بألفاظ وكلمات صعبة، وكان المدير يركض خلفها وهو يقول أنا آسف، آسف لا يحق لي أن ..... وهي كانت تستمر تصرخ وتتخبّط والناس يحاولون الإمساك بها. عاد المدير إلى مكتبه يُلملِم ما بقي لديه من كرامة تبعثرت أمام الجميع، وكل هذا لماذا؟
لأنَّ حواراً دار بينه وبين الموظفة أثار حفيظته وأشعل غضبه، فأفقده توازنه ورباطة جأشه. وما حدث للأسف فيما بعد أنّ المدير تحوّل للتحقيق وطُرِد من مركزه.
هذا الموقف فتح بوّابة ذكرياتي ليمتدّ في ذهني شريط حياتي، ياه! كمّ مرة خسرت فيها أصدقاء وأحبّاء ووظائف وأشغال بسبب سيطرة غضبي عليّ وتملُّكه منّي وتحكُّمه بتصرّفاتي؟ كم من المرّات بكيت وأنا أتأسّف للأعزاء من الناس عن أخطاء وكلمات قلتها وعن فظاعة ووقاحة أظهرتها أمامهم؟
كمّ مرة وقفت أمام المرآة موجِّهة السؤال إلى نفسي: لِمَ تتهوّرين؟ وإلى متى؟ لماذا تتصرّفين وكأنَّ وحشاً فَزِعاً ومُفزِعاً يخرج من داخلك؟ لِمَ لا يمكنك السّيطرة على غضبك؟
ولم ينتهِ شريط ذكرياتي المرير إلا عند أخذي قراراً مهماً، وهو أن أجد حلاًّ وأبحث عن طريق لسكينة داخلية، تُدفئ قلبي وتُعيد انتظام دقّاته. تصفّحت كتباً كثيرة على صفحات الإنترنت. شاهدت أفلاماً عديدة ومنها -Anger management (إدارة الغضب)، حاولت إيجاد العَون والمساندة من بعض من سبقوني في مسيرة التّعافي من الغضب. ولكنّ الحياة أصدقائي ليست كتباً وأفلاماً ومساندةً فقط، بل هي علاقات واختيارات نحن من يحدّدها.
وهكذا توالت مواقف حياتي واحدة تلو الأخرى ولم يكن أمامي إلا الاختيار، بين أن أدعَ السَّيل يجرفني، أو أن أقف لأقاوم. أن أدعَ حصاني الثائر غير المروَّض بدون لجام وأتركه مندفعاً ليقتلني ويقتل المحيطين بي، أو أن أضع لجاماً لحصاني وأشدّه تماماً مُعلنة بأني لا ولن أترك له زمام الأمور مرة أخرى.
وهكذا أخذتْ المواقف المتوالية تعلّمني الكثير من المهارات:
1. تعلّمت التّنفُّس بقوّة لعدّة مرات قبل أن أقول أو أقوم بأيّة ردّة فِعل وأنا ثائرة وغاضبة.
2. تعلّمت إغماض عينيّ الاثنتَين والهمس لنفسي: "اهدئي لأنَّ الأمور ستكون أفضل لو فعلت".
3. تعلّمت المشي والانسحاب من الموقف - إن سمحت لي الظروف- لو أحسست بأني سأنهار وسأفقد السيطرة على ذاتي.
4. تعلّمت رفع سماعة الهاتف والتّحدُّث إلى واحد من أصدقائي ومشاركته مشاعري وبما أحسست في الموقف الذي أثار غضبي.
5. تعلّمت أن أقبل وأُحبّ من يدوسون على الأزرار التي تتحكّم بغضبي وأحاول التعامل معهم بحذر، خاصة وأنا أعلم بأنهم من يثير غضبي.
6. تعلّمت البحث عن جذور غضبي: هل هو الخوف من الفشل؟ كبرياء أو صِغَر النّفْس؟ هروب من تحمُّل المسؤولية؟
7. تعلّمت أنَّ الغضب ليس بخطية مكروهة عند الله، بل الانقياد وراء الغضب والسلوك الناتج عنه من إيذاء لمشاعر الآخرين، هو ما يكرهه الله ويرفضه وهو الخطيئة الفعلية.
8. تعلّمت أنه من حقّي أن أغضب، لكن هذا لا يعطيني الحقّ في أن أُخطىء وأنا غاضبة.
9. تعلّمت بأنَّ الغضب شعور أستطيع التعامل معه كالحزن والضيق والألم تماماً.
10. تعلّمت بأنَّ للغضب أنواع، منه ما هو ظاهر وهذا ما أعاني منه، ومنه ما هو خفي وباطن وهذا ما تعاني منه معظم النساء. تراه يخرج على صورة بكاء أو أكل أو إدمان سلوكي، أو أمراض متنوعة كالصداع وأوجاع الرقبة والظهر.
لقد تعلّمتُ وما زلت أتعلم.
- بأنَّ أهمّ درس في كل ما سبق هو السيطرة على غضبي كي لا يسيطر غضبي عليّ، فيدمّر حياتي ويُفقدني إياها.
- تعلّمت بأنَّ مسيرة التعامل مع مشاعر الغضب مسيرة مهمة وطويلة، لكنَّ الأهم هو أن نبدأها الآن.
فخطة الله لحياتنا أصدقائي، خطة رائعة لا تشوبها شائبة ولا تعيبها ثغرات أو مشاكل. خطة بعيدة عن طُرُق الخوف والغضب والقلق واليأس والفشل. خطة ملؤها المحبة والأمان . [center]