حياة ... في مقبرة
يقولون : تعددت الأسباب والموت واحد .......كلام...
أن تموت تحت سيارة ليس كأن تموت غرقا , أو حرقا , وموتك في معركة برصاصة تفجر جسدك قنبلة في صدر أعدائك يختلف كثيرا عن موتك من الجوع وأنت تتوسل من سيدك في العمل لقمة الخبز . أن تموت بسكتة قلبية مختلف عن موتك بسرطان خبيث يراوغ مع جسدك ,لشهور .. سنوات... قبل أن يقتلك .
أما أن تموت بصفعة على وجهك ..فهو أمر غريب إلا إذا كانت الكف التي صفعتك " لنبي مثلا "
تحملك أياد كثيرة .. بالأحرى تحمل جثتك المتوفاة ..
أياد متسائلة ..هل صفعة تفعل هذا ..
أليس غريبا فعلا ..قبل تلك الصفعة..كانت تدغدغ رأسك أفكار كثيرة وكثيرة...
ألا تزال شابا ..؟؟ عمرك ..؟ كم عمرك ؟؟ خمسون .. ثلاثون ..أربعون ...
لكنك شاب بكل حال , لديك قلب ينبض ورأس يفكر وجسد لا يشكو من علة
والحمد لله.. هذا قبل الصفعة المباركة ..
لماذا مباركة؟.. الكل يتساءل .. لا بد أنها مباركة وإلا لما فعلت فعلها ..
الطبيب الشرعي أكد أنه لم يجد أي سبب للوفاة , الجميع يدور حول الحفرة التي ستعيش فيها بعد موتك , يتلون التعاويذ .. والآيات .. من القرآن والإنجيل .. والتوراة...,
هل أنت الميت مبارك أم تلك اليد مباركة ..؟؟
أحدهم صرخ بلسانِ حكيم..
- إنها ساعته لقد حانت ... لم تتوفر الأسباب فكانت تلك الصفعة .... لا يحتاج الأمر لتعقيد
- وهل يعجز الإله عن توفير سببٍ لتلك الساعة " سخر أحدهم "
- لله في خلقه شؤون وفي طرق اختياره الأرواح كي تلاقيه شؤون أخرى فما شأننا نحن .....
" لو كنت كجثةٍ قادراً على الكلام لصرخت في وجههم ....
- لتذهبوا إلى الجحيم أمضيت حياةً طويلةً ولم يلتفت أحد لجثتي الآن وجثتي إلى الدود ... أنتم حولي تتساءلون كيف مات ... ألا يسأل أحدكم كيف كان يعيش ... كم من الأسباب ساهمت في قتله, حتى أسقطته صفعة ..؟؟!!
يملئون فمك وعينيك بالتراب .. أن اخرس ..
العتمة تحيط بجسدك .. أصبحت وحيدا , كما كنت دائما ..هل هو أفضل لك .. كم من الجثث تحيط بك الآن , وهي ترحب بموتك ,هل ستقفز إحداها من القبر لتسألك :
- ألا تحدثنا عن طريقة موتك ..أم ستسألك .. عن حياتك , كيف كانت .
لابد أن الجثث هنا .. أيقنت أن الموت واحد..
- لا تهم الطريقة في الموت , حدثنا عن حياتك التي أوصلتك إلى الموت..
مثلا...
- هل أمضيت طفولتك مع والدين أو يتيما ؟
ستخبرهم أنك عشت يتيما مع والدين نسياك من فرط اهتمامهما بك..
- كنتَ طفلا وحيدا ..لا يحق لك اللعب في الشارع مع أترابك ,كي لا يطلق عليك: " ابن شوارع " . لا يمكنك أن تلمس التراب ,كي لا تصبح ملوثا ,
كأن الشارع والتراب هما مصدر التلوث الوحيد لأطفال العالم ..
ستذكر جزءا لم تنسه من مراهقتك , عندما فاجأك والدك وأنت تجرب الإحساس مع السيجارة ..
كاد يقتلك .. لم تنم ثلاث ليال وأنت متورم الفؤاد .. ثم كان عليك أن تختبئ طويلا في دورات المياه لتدرك كم كان الإحساس ممتعا مع سموم جسدك...
لم تكن محقا .. التدخين عادة سيئة.. لكن هل كان والدك على حق..؟؟
كان عليك ألا تدخن , ألا تفكر بالنساء ولا تمسك بيديك إلا كتب المدرسة , لا يحق لك حتى أن تطالع أو تشاهد التلفاز ..
- أنت طالب..عليك أن تدرس جيدا لتحصل على مجموع يخولك دراسة الطب ..
- لكني أكره الطب والأطباء..
يكاد والدك يصفعك
- لا أريد أن أصبح طبيبا ..
- يصفعك والدك على شفتيك .. لتبتلع صوتك مع لعابك ..
- هل هي الصفعة التي قتلتك ؟
- لا .. لم تحن ساعة موتك بعد وكأن طعم الدم في فمك حينها منحك القوة لتحيا .. وتحقق حلم والدك ..
عندما حصلت على مجموع عال في الشهادة ..
هرع قلبك قبلك , كان يحلم بعناق طويل .. بدمعة يرسلها الأب الفخور بابنه ..أردت لأمك أن تزغرد ككل الأمهات
- حسن...هديتك على مكتبك ..
- حسن..!! " لم يمد يده ليصافحك حتى ..
" إنه أمر طبيعي ,كان متوقعا .. "
ابتسمت أمك لتجهض انفجار قنبلة من الدموع ..
تسرع إلى مكتبك .." تذكرة للسفر إلى الخارج .. ستدرس في أفضل الجامعات في إنكلترا , وتعود جراحا بريطانيا .." تبتسم ببرود جراح بريطاني .."
- حقا.. ؟ كم ترغب بتمزيق الأوراق ,كم ترغب بتمزيق والدك .. وأمك حتى ..
تترك المنزل وتخرج ..
لكنك تعود ... وتسافر .. وتصبح جراحا بريطانيا.. ومشهورا ..
- عندما توفي والدك.. " هل حضرت جنازته ..؟؟"
- لا ..! كنت مشغولاً.. هل يمكنني أن أترك دراستي وأعود ؟كيف سأنجح... لا..لا.. مستحيل ,لا أظن والدي سيقبل لو كان حيا .. وسأبرق لأمي ..
- " ليكن الله في عونك .. عندما أصبح جراحا مشهورا سأعود وأضع وردة على قبر والدي لا تقلقي ..
( لم تبك أمك أغلقت عينيها على قنابل مطفأة وانطفأت ..)
- لم تحضر جنازة أمك !؟؟
- لا..لا.. طبعا ..كيف لي ذلك .. لا وقت لدي ..كم من العمليات تحت يدي ..ماذا سأفعل بالمرضى , هل أترك أحشاءهم تنفجر لأزور جسدا ميتا تحت التراب.. لا.. لا.. مستحيل ..
- عندما أجد في مفكرتي مساحة فارغة سأعود وأقبل ترابا يحميك من ألم العالم خارجا , سأفتح لك طاقة صغيرة لتنفجر كل آلامك .. ودموعك المطفأة , سأمنحك فرصة تحت التراب لتنزفي حزنك على ولدك الميت وهو على قيد الحياة ..
- قريبا ..قريبا جدا..
( تمتص الأيام جسدك ..سكين تتحرك في أحشائك وتمزق فيك شرايين كثيرة , دماء تنزف زمنا راح وكان عليه ألا يكون ..ألست طبيبا ..؟ ومشهورا..!!!؟)
"- رحلت يا أبي ولم تر وجه ابنك الطبيب , قتلته ولم تسأله يوما أن يعود ليدفن في أحضان أمه على الأقل.
" – ابق ..ابق .. سيقتلونك هنا ..لن تنجح أبدا .. هناك سترتفع .. ونستمر بالارتفاع.. أنا أعلم , حتى عندما تموت .. ستكون عاليا..."
ستضحك الجثث من حولك على قصتك ..
- قتلتك صفعة ..!!
- نعم كنت حينها في الطابق العلوي من المشفى , عندما صفعني أحدهم ..! هذا هو حدس أبي ..
ستقهقه جثتك وترد لها زميلاتها في المقبرة ..
من زمن لم تضحك بهذا العمق...
- كم أنا مدين لتلك الكف المباركة ..
- ألم تتزوج ..؟؟
- بل عشت قصة حب إنكليزية بكل معنى الكلمة .. وتزوجت وأنجبت أولادا وأرسلتهم حيث يريدون ..
- لم يكن أولادك حولك ..
- نعم لدي ثلاثة أولاد .. كان لدي ثلاثة أولاد..
يوما أذلني الغرب , بامتصاصه لرأسي ويدي .. شعرت هناك أني أستغل دون احترام لشخص يعمل .. حتى إن احترموا مركزك وعقلك , عليك دائما أن تحني رأسك لأنك مدين , كأن لا دور لك لمجرد أنك .....؟؟!!!..و ...
" وستبصق حينها ..؟؟!! ".. قد تدرك الجثث الزميلة .. لماذا ..
- إذا هي العودة إلى الوطن ..؟
- ألا يستحق وطني رأسا كرأسي ويدا كيدي..ألا أستحق الموت في أحضان عربية.. أن أدفن تحت تراب عربي ... على الأقل ..؟
( رميت شهرتك .. وخبرتك ..رفضت زوجتك العودة معك , أولادك المستقلون سخروا منك.. " لسنا بحاجة إلى والد .. ليحمك الله في غربتك .."
" لكني هنا غريب ..؟؟" )
( عندما عدت إلى وطنك ..أدركت أن لكلمات أولادك الأغرار معنى عميقا ..!!
( أنت غريب .. غريب .. تلك غربة وهذه غربة ..هناك يستغلونك حتى آخر خلية من رأسك لكنهم بالمقابل ..يمنحون هذا الرأس شيئا من الاحترام .. لا يهم أي نوع من الاحترام ,لكنه احترام بكل حال..
أما هنا يستغلونك ويذلونك ..لا أحد يفكر برأسك ويديك لا أحد يفكر ما معنى أن تعمل بتفان.. أو لا تعمل ..الأمور تسير بشكل عشوائي .. غريب التركيب ..
( هل يتعلق الأمر بالمال ..؟؟؟
لديك مالا كافيا ..عليك أن تبني اسما جديدا في بلدك... ولم تكن تعلم أن الطبيب هنا بعد التخرج .. يدرس عاما كاملا " وبشكل عملي " في مجال السمسرة والتسويق .. والدعاية.. هذا فاتك في غربتك .. بداية شبه فاشلة ..
( اسمك الجديد ينطلق ببطء وببطء شديد ..إلى الأعلى ليقفز إليه تجار " أطباء " السوق ويطلقون عليه النار ليسقط ..
تضمد جراحه .." أنت جراح ماهر ".. لينطلق مجددا .. ومجددا .. تجار جدد ... وهكذا.. ملايين الجراح.. "أصبحت أحشاؤك مرقعة.." )
- هل تعود إلى غربة جسدك ..؟
- هل ستبقى حيث غربة روحك وجسدك ؟
- ماذا ستفعل ؟
- لا يفكر أولادك في الاتصال والسؤال عنك ..أصبحت ميتا ؟!...لا يهم..
" لسنا بحاجة إلى والد.." كانت جملة عملية بحتة .. تتذكر والدك ..
( بعد عذاب طويل حسب مفاهيمك العملية في الطول والقصر ..تم تعيينك في مشفى حكومي ..
( عيادتك لم تثمر ..المشافي الخاصة لا تريدك , هناك حرب .من أجل ذلك ..
في مشافي الدولة .. يحاصرك التجار أنفسهم
سينظر إليك المرضى .. بقليل من الشك وكثير من الاحتقار :
ـ كم مريض لقي حتفه تحت يديه.. في غرفة العمليات ؟!!!
ـ تصفعك الإشاعات ... الأكاذيب الملفقة باحتراف.. تصفعك شوارع بلدك " لستُ ابنها "... والدي السبب ..
ـ يصفعك ترابها.. " لست ممنعا "
تنهكك الصفعات .. لكنها .. لا تقتلك ..
كم أنت ضعيف وتائه ..
ماذا ستفعل..؟ هل ستكتفي بتضميد جراح جسدك وروحك ... لتنكأ من جديد..
إلى متى ..... ؟ )
- سأصبح مثلهم ...
- هل لديك شهادة خبرة...؟
- سأحصل عليها... وأنحني لكل تجار السوق .. لنتقاسم السلع " عفوا .. المرضى "
- لم أحتج لعام .. كانت أيام كافية لأصبح مثلهم .. بدأ اسمي يضرب في السوق.. الطبيب الجراح ..
- لكنه لم يجرؤ على الصعود على باقي الأسماء .. لم ينزل درجة لأن نظام السوق يمنحك الدعم والتحطيم معا..
- أصابعي أصبحت كأصابع جزار ، قتل الطبيب في داخلي .. طبيب ولد رغم عن أنفه.. كبر كإنسان وقتل كمجرم.. هكذا كنت أشعر وأنا أجري عملياتي الجراحية كم من بطن فتح مبضعي .. من أجل مبلغ من المال دون سبب لفتحه.. كم من مريض يبصق دما أرسلته إلى جحيم ضميري الميت لأنه لا يملك نقودا..
( اختلطت الأيام عليك صار رأسك ورما خبيثا يسيطر على جسدك... و...
ويقولون مات من صفعة أن تكون طبيبا .. ناجحا .. وبهذه الطريقة أمر يقتلك.. )
- لو كان والدك على قيد الحياة هل كان سيسعد لنجاحك...
- سيسعد....؟
- وكيف لو وصل إلى نهايتي مثلا..؟
- ولكن كيف كانت نهايتك..؟
- ربما هو من وضعها .. ألا يجوز أنه خرج من قبره إلى مكان عملي " ليصفع ولده العاق " عادة .. الأرواح ... تمتلك قدرات خارقة في تحطيم الأجساد..
- ربما كانت روحه قريبة جدا مني وأنا أجادل والد طفل حول عملية إسعافية لا أجريها إن لم يدفع المبلغ المطلوب ولا تهمني حياته قبل نقوده...
كان والدي يصلي .. ليرفع الوالد الآخر يده إلى وجهي وتفعل فعلها المبارك..
- لم يكن والدك .. أو الوالد الآخر نبيا.. ؟!
- حسنٌ.. لنقل أن قصة وصولي إلى موتي لم تعجبكم... " تلك القشة الصغيرة " التي صرعتني لم تكن كافية ..
- ماذا لو أن توازني اختل إثر تلك الصفعة.. فسقطت على الزاوية الحادة لحجر ما.. أليست إصابة كافية لقتلي ..ربما كانت تلك الحادثة ..على أعلى درجات سلم المشفى ، فتدحرج جسدي بعد الصفعة لأسفله.. ربما ؟
- لكن الطبيب الشرعي أكد...؟!!
- وهل علينا أن نصدق كل ما يقول الطبيب الشرعي... على الأقل نحن الجثث ندرك أنه ليس قديسا لنؤمن بكل ما يقوله..
- بكل الأحوال كجثث هل تصدقون أن الصفعة هي التي أنهت حياتي؟!!
1ـ أنا قوس بين يديك يا إلهي فشدني لئلا أتفسخ
2ـ لا تشدني كثيرا يا إلهي لئلا أتحطم
3ـ شدني كثيرا يا إلهي فمن سيهتم لتحطمي !؟